الجمعة، 22 فبراير 2013

حسين المناصرة-العصافير لا تغرد خلف القضبان -رواية-ج1



حسين المناصرة



العصافير لا تغرد خلف القضبان
Birds do not sing behind bars



رواية
2013






(0)
الشاطر من يضحك أخيرًا!
من أين بدأتَ؟!
كان صباحًا هادئًا عندما وصلتَ إلى الجسر على نهر الأردن.. الذباب شرقي النهر  كثيف كعادته...والزحمة هنا ضاربة أطنابها ...  والجندي (خلف) يصرخ على الناس  بسبب وبدون سبب!!
 خمس سنوات وثلاثة أشهر... تصريح إقامتي في الخارج قد انتهى منذ ثلاثة أشهر...لدي ما يبرر هذا التأخير إن سألوني هناك...في كل الأحوال سأحصل على هويتي منهم...
انتقلت إلى الجانب الآخر...
 لا يوجد ذباب هنا ، والهواء في الصالة بارد جدًا، بفعل التكييف العالي ..هنا أربع ساعات وأنا أنتظر  الحصول على هويتي؛ كي أمرّ إلى مسقط رأسي ...
هنا  معظمهم من الموظفات الفاتحات صدورهن...يحرصون هنا على أن تكون الموظفات في مركز الحدود جميلات ومبتسمات دومًا ...ويعلقون في كل مكان لوحة كتب عليها ... أهلاً بك أخي الزائر الكريم في دولة "إسرائيل"... لعنة الله عليكم .." صار للخره مره وصار يحلف بالطلاق"...لا أهلاً ولا سهلاً بكم في وطني، الذي  جعلتم فيه آخر  استعمار  في التاريخ البشري!!
 بين الفينة والأخرى تناديني تلك الموظفة البدينة الجميلة التي أخذت التصريح وجواز السفر .. تسأل عن بعض التفاصيل : اسمي إلى الجد السابع .. ودراستي منذ أن ولدت.. وعملي متى وأين ؟! .. وأين سافرت خلال السنوات الخمس في الخارج، ومهنتي..وإن كنت أعزبًا أو متزوجًا... ومع كل سؤال  تبتسم ، وكذلك تبتسم جارتها النحيفة التي لا دخل لها بما يحدث معي... حتى ابتسامتنا سرقوها هؤلاء الغزاة الأوغاد.. نساء جميلات مبتسمات دائمًا هنا .. كأنهم ليسوا أبناء عصابات الهجاناة والأرجون والشترين .. عصابات ضاربة صاعقة كما سمّوها عندما استولوا على البلاد، ارتكبوا المجازر في المدن والأرياف والبوادي ... قتلوا ودمروا وهجروا... حتى الأطفال في أحشاء أمهاتهم قتلوهم!! ثم أقاموا دولتهم العنصرية المجرمة ... ومن يومها وهم يجرمون.. لعنة الله عليك يا "بلفور"... ولعنة الله عليكما يا "سايكس-بيكو"!!
الجندي (خلف) هناك.. يستخدم حزامه  العسكري الغليظ؛ ليجعل المسافرين ينتظمون في الصفوف... كيف ينتظمون  والذباب عشرات أضعاف البشر... والشمس الحارقة تأكل الوجوه..  والمقاعد أن نفترش   الأرض المتسخة؟!
عند  هؤلاء الأعداء المحتلين الغاصبين... هنا نظافة، هواء بارد، مقاعد متراصة، صفوف منتظمة، موظفات الجوازات جميلات مبتسمات... حتى عندما يرتفع صوت إحداهن على مسافر أو مسافرة.. لا بد أنك ستعتقد أن هذه اليهودية من أصول عربية أو شرقية...  وربما يكون اعتقادك خاطئًا...فهي تعود  إلى ممارسة الابتسامات في كل مكان...كأنهن حصلن على درجات الدكتوراه في الابتسام... هم هكذا "يرشون على الموت سكر"!!
لم يبق في القاعة سوى عدد قليل من المسافرين ... ومازلت أنتظر أن يُفرج عن هويتي ... الوقت غداً عصرًا . سألت مرتين أو ثلاث عن سبب تأخر هويتي ...لا تغضب... تبتسم، وتطلب مني أن أنتظر..
ثم جاء الفرج .. نادت اسمي .. قمت.. وقفت ... وقف أمامي ثلاثة جنود من فئة"حرس الحدود"،  أخذوني  إلى ساحة مجاورة ، ربط أحدهم يديّ خلف ظهري، ووضعوا القيد في ساقيّ، مشيت بهدوء  معهم بقدر المسافة التي  يسمحها هذا القيد بين قدميّ.. عندما أوصلوني إلى الجيب العسكري، طلبوا مني أن أقفز إلى الصندوق.. كيف أقفز ويداي ورجلاي مقيدة ؟! حملوني كخروف مكبل للذبح، ورموني بلا رحمة على أرضية صندوق الجيب..جلس الثلاثة على المقاعد في الصندوق،فكنت  عند أرجلهم. بقطعة قماش  على شكل عصبة، عصّب بها  أحدهم عيني.. فغدوت لا أرى .. ولا أتكلم.. 
 جيش حرس الحدود من  أقذر جيوش العالم.. جيش قمعي جزار ..فيه خسّة ونذالة وبطش!!
عدة مرات ضربوني بأرجلهم.. رموا الأوساخ عليّ.. مددوا أرجلهم عليّ ليريحوها..أحدهم وضع حذاءه على رأسي..يريدون استفزازي ؛ لينهالوا عليّ ضربًا.. هذه طريقتهم في النهش.. يريدونك أن تشتمهم  بكلمة أو أكثر؛ ليجعلوا وجهك وجسدك يتمرغان في شتائمهم وأحذيتهم ولعابهم.
منخفضات ومرتفعات .. حركة الجيب على الشارع الإسفلتي .. لا تختلف كثيراً عن حركته في الوعر ...بإمكانه أن يجعلك تتقيّأ أحشاءك.. لكنك لم تأكل شيئًا منذ ليلة أمس كي تتقيّأ.. خرجت مبكرًا...هؤلاء الكلاب لم يتركوا شيئًا إلا وأكلوه .. وكل النفايات ألقوها عليك.. حتى بقايا الماء كبوه ..إلا الضرب لم يمارسوه .. ربما لأنني ضبطت أعصابي.. ليس بإمكاني سوى أن أشتمهم.. هم يريدون ذلك .. إنهم متوحشون حين تستفزهم مرة واحدة...وطوال الطريق وهم يستفزونك...أحيانًا كنت تغفو.. لكنهم لا يمهلونك كي تنام  نصف دقيقة .. يعرفون أنك نمت أو تريد أن تنام.. فتصحو على لكزة من أقدامهم أو دفقة ماء صغيرة على وجهك.. ليس بإمكانك أن تنام إذن .. يداك تحت ظهرك تؤلمانك.. تخدرتا حتى فقدت الإحساس بهما!!
توقف الجيب عدة مرات في أوقات عديدة، وفي أماكن عديدة.. لكنه هذه المرة توقف مدة طويلة.. ثم نزل الجنود .. جرني أحدهم من القيد الذي في رجلي، ثم تركه؛ ليمسك قميصي  صارخًا: 
- وقف.
وقفت .. ثم سرت مسافات عديدة جرًا... كل شخص يسلمني  لآخر .. 
- وقف.
وقفت ..  امتدت يدان  إلى العصابة على عيني ..حلّها .. فتحت عينيّ بصعوبة .. كان أمامي ثلاثة رجال في غرفة صغيرة.. أحدهم يجلس خلف الطاولة.. شكله أمريكي أو  بولندي..  هو المسؤول فيما يبدو هنا ، واثنان أمام الطاولة؛ كأنهما من يهود الروس...لم أركز على ملامحهما  .. كانوا يتحدثون بالعبرية .. قام المسؤول، واقترب مني.. مازلت مقيد اليدين والرجلين..
- اسمك؟
- علاء ؟
- أبوك؟ 
أمين.
- أنت عارف ليش هون؟ 
- لا أعرف!!
- حتى تجيب على سؤالي البسيط.. شايف أصابعي العشرة .. هي مش مثل بعض... مختلفة.. في إسرائيل  مثلاً عشرة أحزاب مثل أصابعي مختلفة .. في حزب في أقصى اليمين المتطرف مثل "شاس"الذي ما بدو عرب في إسرائيل، وفي حزب آخر في أقصى اليسار مثل " ركاح" الذي بدو إسرائيل دولة شيوعية لا تميز بين اليهود والعرب... وكمان أنتم الفلسطينيين  عندكم عشرة أصابع قصدي  عشرة أحزاب، من أقصى اليمين  الذين بدهم يرموا اليهود في البحر ...إلى أقصى اليسار الذين بدهم دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل ..سؤالي إلك يا علاء  أن تقول لي أنت من أي أصبع.. قصدي من أي تنظيم فلسطيني؟
ابتسمت .. أو ضحكت لا أعرف!! فجأة وجّه لكمة بكل ما أوتي من قوة إلى بطني جعلتني أنحني إلى الأمام بقوة،  مصدرًا " آهة" ممدودة قوية.. فأتبع ذلك بشلوط كاد أن يسقطني على الأرض ، لكني تماسكت وحافظت على توازني .. فأتبع ذلك ببصقة انتشارية؛ انتشرت على جسدي كله...
- تضحك؟ تضحك يا (....) ؟! بعدين بنشوف  مين يضحك في النهاية... "الشاطر إللي يضحك في الآخر" ..تذكرْ كويس...  خذوه.
ربط أحدهم العصابة على  عينيّ .. ثم قادني.. أو جرني...وكان حذرًا وهو يعطيني تعليمات المشي على درج إلى الأسفل؛ لأن رجليّ مكبلتان...!!

 (1)
الغرفة المنتنة
غرفة مساحتها عشرون مترًا مربعًا تقريبًا، جدرانها صفراء باهتة، فيها نافذتان صغيرتان مرتفعتان، لا ترى منهما أي شيء في الخارج، تحتاج إلى كرسي، تصعد عليها؛ لتتمكن من رؤية الأشياء هناك، إن أتاح لك ذلك زجاجهما المتسخ.
هذا المشهد البائس أول ما لفت انتباهك . بعد أن فكّ أحدهم الرباط الذي عُصِبت به عيناك. نظرت إلى الأرض، هناك كرسيان عاديان من نوعية كراسي المقاهي، أرضيتهما خشبية،  متقابلان في وسط الغرفة. نظرتَ خلفك، كان الباب مغلقًا، فالذي فكّ الرباط عن عينيك كان يقف خلفك، يمسك ياقة قميصك من عند "عرعورك" ، ويجرك كخروف أعمى.. ثم فتح بابًا، فأوقفك. وبدأ يفك  العصابة المشدودة بقوة حول عينيك.. سحبها بعنف، ودفعك بعنف، وأغلق الباب بعنف.. في اللحظة نفسها.
وقفتَ حيث تماسكت أنفاسك بعد تلك الدفعة العنيفة... بكل تأكيد ستكون وقعتك وخيمة فيما لو سقطت على الأرض أو ارتطم رأسك بالجدار ؛ فيداك مربوطتان خلف ظهرك بحبل سلكي فولاذي رفيع متين، يزداد عنف الألم كلما حركتهما، ورجلاك مقيدتان بجنزير حديدي، يجعل خطواتك متقاربة، مما يسهل سقوطك في أية لحظة، لو لم تسيطر على تلك الدفعة.
على يمينك في الغرفة ذاتها " دش" ماء  معلق على الجدار المتسخ، تحته حوض مربع الشكل،   في وسطه مصرف لتصريف الماء  إلى خارج الغرفة.يوجد في الحوض قطعة صابون  صفراء  كأنها من نوع "لوكس"، وليفة حمام  شكلها متسخ.
أعدت التأمل في جدران الغرفة..بدت لك ألوانها الداكنة الأخرى في اللون الأصفر القاتم  ... تبدو في ألوانها بقايا دماء ، وربما آثار أحذية سوداء .. وأوساخ أخرى !!
كان رأسك أشبه بمروحة تدور حولك... وعيناك هما كل حواسك في تفحص كل شيء من حولك... حتى النمل الصغير(الذر) الذي يسير على البلاط "البلدي" المائل إلى السواد رأيته آنذاك، كان يسير سريعًا، كأنّ حالة من الجنون  قد تملكته.. ولا شك أن بيوته كثيرة هنا نتيجة  تشققات عديدة في أرضية الغرفة، وبخاصة  في تلك المساحة التي تقع بين أرضية الغرفة وأسفل جدرانها...
لا شيء آخر غريب في الغرفة ..حتى العفاريت التي لا تراها،ربما لا تعتقد أنها تقيم  في هذا المكان المنتن... فكرت في أن تجلس على إحدى الكرسيين ..لكنك تدرك جيدًا مدى إجرامهم عندما تمارس بعض قناعاتك الساذجة، ولو بمجرد ابتسامة!! آثرت أن تنتظر.. أن تتحمل الألم واقفًا أفضل من أن يخبطوا في بطنك جالسًا مربطًا في يديك ورجليك.. أو يهجم عليك أحدهم؛ فيسحب الكرسي بقوة من تحت مؤخرتك؛ لتسقط على الأرض جلمودًا مقيد الأيدي والأرجل.
وما أدراني، ربما تكون هذه الغرفة  مراقبة بكاميرا خفية، لا تراها العين المجردة أحيانًا .. هذا ما يعرف عن سفالتهم المتأصلة في أخلاقهم الشريرة، فهم يصورون كل شيء فيك، ويراقبون كل شيء حولك، من حيث لا تشعر بهم ، ليس لأنهم أذكياء أو أبرياء ، وإنما بسبب امتلاكهم للتقنيات عالية الجودة، ولأنهم بلا أخلاق!!
بدأتُ أدركُ جيدًا بأن إيقافي على هذا النحو   في هذه الغرفة هو مؤامرة صغيرة منهم، ربما لمعرفة مدى جَلَدي وقوتي... يريدون اختبار إرادتي نحو العذاب النفسي...إرادة الفلسطيني الكامن في داخلي،  الذي يسعى عبر سنوات طويلة، زادت على قرن،إلى تحرير وطنه من عدو صهيوني غاصب، جاءت به كل المؤمرات إلى هنا، إلى أرض "السمن والعسل"، إلى "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" كما يزعمون!!
رائحة الغرفة صدئة عطنة، فيها برودة مستوطنة بسبب غياب  الشمس عنها سنوات طويلة، وأرضيتها أشبه بالمزبلة السوداء لاتساخها ، وتمدد عفونتها في كل ملامحها . 
المخرج الوحيد من هذا الوقوف الإجباري، يكمن في أن يفتح هذا الباب الحديدي المصفّح.. أن يأتي أحدهم  ليعلن أمرًا ما ... تذكرت تلك الحكمة الشعبية المروية  عن عنتر بن شداد، كما وردت في سيرته الشعبية:"النصر صبر ساعة"!! روى حكايته لي أحد عجائز قريتي المشبعة بحكايات أبي زيد الهلالي.
روي عن أحد الرعاة  أنه سأل الشاعر الفارس الأسود عنتر بن شداد عن سبب قوته وفروسيته وانتصاره على غيره في كل الحروب! فعرض عنتر على الراعي أن يضع كل منهما إصبعه (الشاهد) في فم الآخر ، فيعض كل منهما على الإصبع الذي في فمه بكل ما أوتي من قوة وبأس، ومن يصرخ منهما أولاً، فهو المهزوم...ثم صرخ الراعي من شدة الألم؛ فانتصر عنتر الذي قال للراعي :" كنت أتألم أكثر منك، ولو لم تصرخ قبلي لكنت أنا الصارخ قبلك.. هذه هي الشجاعة يا صاحبي: الشجاعة صبر ساعة".
ضحكت.. كنت واقفًا متعبًا ، أكاد أفقد إحساسي بقدميّ!! ومع ذلك ضحكت.. لم أضحك بسبب حكاية الراعي وعنتر بن شداد التي علمتني أنّ "الصبر مفتاح الفرج".. ضحكت لأني تذكرت تلك النكتة الخبيثة عن قساوة رأس الخليلي( ابن مدينة الخليل بفلسطين).
 تقول النكتة: خليلي وسلطي( ابن مدينة السلط بالأردن) يقود كل منهما سيارته، التقيا في شارع ضيق، وطلب كل منهما من الآخر أن يرجع ؛ ليمر أولًا.. لكن العناد بينهما وقساوية رأسيهما  أوقفت كل منهما في مكانه، لا يتزحزح عنادًا أو قساوة رأس كما يقال. ثمّ اعتمد كل منهما على أن يملّ الآخر فيفتح الطريق. فكر السلطي أن يغيظ الخليلي، ففتح الجريدة وبدأ يقرأ ، ظنًا منه أن الخليلي سيرجع سيارته إلى الخلف بعد هذه الفعلة العنادية؛ ليمر السلطي... بعد ساعة من قراءة السلطي للجريدة ... فتح الخليلي باب سيارته، متوجهًا  إلى السلطي ، الذي رآه قادمًا، فامتلأ بالغبطة والسرور ظنًا منه أن الخليلي لم يصبر وأنه هزم.. قرع الخليلي زجاج باب سيارة السلطي ... ففتح السلطي النافذة مخفيًا نشوة انتصاره.. قال له الخليلي: لو سمحت حبيبي، إذا انتهيت من قراءة الجريدة  أرجوك أن تعطيني إياها حتى أقرأها!!
انفتح الباب خلفي بقوة... لم أنظر  إلى الوراء!! وقف أمامي قصير القامة، ممتلئ الجسد، بملابس داكنة كوجهه الداكن المدعوك بسمرة عينيه المطفأتين في حمرتهما. وشعره الأسود الموشى  بشيب مخلوق بشري في أواخر أربعينيات عمره...تفوح منه رائحة كريهة.. رائحة سجائر وعرق وخمرة ونجاسه بشرية تشكلت كلها في أفكاري، قبل أن أراه أمامي مخلوقًا تتقيأ من مرآه الخنازير ... هو في المحصلة شمبانزي في هيئة بشر.. يحمل في يده اليمنى عصا ليست طويلة ، ولكنها غليظة نسبيًا، يحملها بيده اليمنى، ويضربها في كف يده اليسرى، في إيقاع متوحش دال على التوتر... منظره يدعو إلى الضحك على طريقة "شر البلية ما يضحك".. وكدت أقهقه بصوت مرتفع ...لكنني خشيت أن يحدث معي في هذه المرة  ما حدث تلك المرة...فلم أبتسم!! 
-عوفاديا.
كان فمه يحوي أسنانًا داكنة، نخر بعضها السوس، وبكل تأكيد هو يدخن.. لا بدَّ أنه يهودي شرقي مروكي أو إيراني .. أشك في أن يكون عراقيًا أو مصريًا.. هو على الأغلب من إيران  كما يتهيأ لي.
- اسمك؟
- علاء .
- مين أبوك ؟
- أمين.
علاءأمين..  شاب فلسطيني، يقيم في وطنه الفلسطيني المحتل، طويل القامة، مبتسم دائمًا، متفائل جدًا، يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن فلسطين ستتحرر من الاستعمار الصهيوني، كما تحررت في الماضي، ونفضت عنها - منذ أن أسسها أجداده الكنعانيون العرب - أكثر من عشرين استعمارًا...
  عوفاديا... صهيوني عنصري مهاجر إلى فلسطين المحتلة من مكان ما... يعمل في جهاز الشاباك "الشين بيت"  (ش.ب/ شيروت بيتحون كلالي) - جهاز الأمن الداخلي  في الكيان الصهيوني!!

(2)
واحد صفر

لفّ عوفاديا ودار في الغرفة الصفراء المنتنة،  يضرب العصا في كفه الأيسر، يهذي بصوت منخفض : " لا تريد أن تعترف .. لا تريد أن تعترف... لا تريد.. لا تريد أن تعترف"؛ بدا لي  كأنه كلب مسعور، يحاول أن يضبط أعصابه التي طالما  قوّضها أبناء كنعان العربي في فلسطين... يريد أن يشرب هذيانه كما يشرب سيجارته!!
هذه أرضنا أيها الغزاة المتوحشون، لن تكونوا أكثر من  غزاة مستوطنين، تعريتم من إنسانية البشر، خذوا أساطيركم التوراتية وارحلوا... ارحلوا إلى الجحيم ..هذه أرضنا وشجرنا وتاريخنا كله.. لهذا تحقدون على شجر الزيتون، وعيون أطفالنا ، وزغاريد النساء ، وتراث أجدادنا، ونسمات الهواء المشبعة بالندى على نوار الجلنار، وابتسامة الصباح تحمل الفلاح الفلسطيني إلى بقايا أرضه... أنتم دويلة العسكر والفناء، وقطاع الطرق عندما يلبسون ربطات العنق، وكل قراصنة الليل عراة، وبقايا الشعوب اللئيمة في غرف العناية المكثفة!!
هبط عند قدميَّ، لن  يقبلهما بكل تأكيد!! إنه مضطر -فيما يبدو- أن يفكّ القيد الحديدي الذي يكبلهما، لن أرفصه بإحداهما إن فكّهما، فأنا الأسير وهو سيد هذه الدهاليز الصفراء الداكنة، فلينعم بساديته المنتنة!! 
كنت متيقنًا من أنه لا يريد أن يخفف عن قدميّ ما ألمّ بهما من ألم .. ولن نلعب معًا لعبة "الغمية " في هذه الغرفة الحقيرة -على أية حال... ولن يطلب مني أن أدوس  على رأسه البشع إشباعًا لمازوخيته المجرمة إن كان مازوخيًا. دار نحو ظهري وبدأ يفكّ يديّ من قيدهما.. حبل سلكي فولاذي رقيق غير قابل للقطع.. وكلما حركت يديك فيه، زاد ضغطه عليهما ؛ لذلك حنّط يديك واقتل حركتهما تعش حينئذ في رحمة هذا القيد الملعون.. الحركة هنا عذاب، ولا بدّ  إذن من تطبيق نظرية عنترة بن شداد في " الشجاعة صبر ساعة".
وقف أمامي رافعًا رأسه ... أخرج سجائره، أشعل سيجارته .. ثم تناول أخرى، وقدمها لي.
- لا أدخن.
- لا تدخن؟! كذاب.. سجائرك مع أغراضك الأخرى في "الأمانات".
- خذ دخن حتى نخلي الأمور بينا على بساط أحمدي، كما تقولون في  أمثالكم العربية.
- تركت التدخين.
- كذاب...أنا فكيت رباطك؛ لأني مش خايف  منك تهجم علي، ولا أنا محتمي بهذه العصا أو بمسدسي... بالعكس أنا لو طخيتك الآن ما راح واحد يقولي شو صار؟ مثل لو بقيت مربط... بإمكاني أن أطخك بدون أية مساءلة من أحد... أنت هجمت علي!! مين شايفنا؟! أنا بس شايف!! وبعدها أترقى إلى رتبة أعلى في الأمن... باقي لي ثلاث سنوات حتى أترقى... أنت إن مت الآن يسرت لي الترقية بسرعة... بمجرد أن أضغط على المسدس ستذهب إلى الجحيم، وأنا سأترقى إلى منصب أعلى في النعيم..  شو  قلت؟!
- إيش أقول ؟!
- تعترف إنك في المنظمات الإرهابية.
- أي منظمات إرهابية؟!
- إنت خبرني عن تنظيمك الإرهابي؟ بلاش تخبرني...أنا بخبرك... تعال اجلس...
رمى العصا على الأرض بعصبية، فأخرجت صوتًا كسر نمطية الحوار الاستفزازي الهادئ بيننا ... أطلق النار من مسدسه عليَّ عدة مرات في حركات كاريكاتورية ... لم تخرج منه أية طلقة ..علق ساخرًا :
- ما تخاف... ما في رصاص... إدارة السجن تسحب منا الرصاص.. حتى ما نتهور ونقتلكم يا "مخربين". لكني أهرّب معي أحيانًا رصاصة أو رصاصتين بدون علمهم للحاجة...ما بتعرف ممكن نحتاج رصاصة أو رصاصتين في راسك... اجلس..اجلس.
جلس على الكرسي .. ولما حاولت أن أسحب الكرسي الآخر بعيدًا عنه ، قربها أكثر نحوه .. وأشار أن أجلس، فجلست. أشعل سيجارة ومجّ منها "مجَّة" طويلة،  ثم نفثها في وجهي... كان يدرك جيدًا مدى حاجتي إلى السيجارة ، ولكني لن آخذها منه، ولو كانت فيها حياتي. كانت رائحة فمه  الممزوجة بدخان السيجارة  كريهة، ومقرفة؛  فكرهت التدخين ... قدم لي سيجارة، فرفضت بحجة أني تركته .. ولن أدخن أبدًا!!
كان للسيجارة معنى حقيقي...لكن ليس في هذا المكان...ولا مع هذا المخلوق القذر!!
- الآن أنا أعرض عليك السيجارة ... بعدين أنت رايح تطلبها مني.. " ما تقول للزمار زمّر حتى يزمر لحاله" .. المهم خلينا في المفيد..  ما رأيك أن تروح إلى بيتكم بعد ساعة أو ساعتين؟!
- قصدك أنا؟!
- في أحد غيرنا أنا وأنت  في الغرفة؟! ما في جماعة " بسم الله" المسلمين هون... الدنيا نهار.. إحنا في الصباح... أكيد ما بتعرف الوقت ولا المكان.... 
نفث الدخان  في وجهي مرة أخرى .. وكأن صبره قد بدأ ينفد..
- ماذا قلت ؟!
- في ماذا؟! 
- أن تنام الليلة في بيتكم؟
- موافق؟!
- ولكن لي شرط بسيط.
- وما شرطك؟!
يُطرح هذا الطلب  أو هذا الشرط عادة  على كل فلسطيني،  يعتقل في سجون الاحتلال... فأصبح من بديهيات التحقيق الغبي أو المتغابي أن يقول ذلك..
- تكتب قصتك مع التنظيمات الإرهابية ، وتتعاون معنا، وتخرج إلى بيتك اليوم أو بكرة على الأكثر.. موافق؟!
دعس على بقايا سيجارته بعنف.. وبدأ يلوك شيئًا ما في فمه.. منتظرًا ردي الذي لا يخفى عليه  كلما رآني شامخًا في اضمحلاله... 
- أنا ما عندي قصة في تنظيم ... ونجوم الظهر أقرب لك من أن أتعامل معك... ولازم أروح إلى بيتي بعد ربع ساعة؛ لأنه ما عندي إرهاب...أنت الإ رهابي...
بصق في وجهي بصقة ممتلئة بلعابه المنتن، التي حوّشها في فمه طويلاً، فشعرت أن وجهي كله قد غدا منتنًا بلعابه... ولم ينفع مع لعابه أي مسح بكم قميصي..كان علي أن أغسل وجهي مرة واحدة بالتراب وسبع مرات بالماء ؛ لأزيل عنه  نجاسة هذا الكلب المسعور!!
- قانون شامير يا حبيب أمك  يسجنك ثلاث سنوات على الأقل .. بوجود اعتراف واحد عليك... وعندنا  اعترافات مش اعتراف واحد... وخليك  في السجن... عفِّن.
أمسك شعري من غرّتي، وشده بعنف واقفًا .. ولأول مرة أكره طول شعري ، الذي طالما تباهيت بطوله في الجامعة... كنت أتميز بأشياء عديدة في تكوين شخصيتي في أثناء دراستي في البكالوريوس: طول شعري ، وفتحة البنطلون موديل الشارلستون التي وصل قطرها إلى ٧٠سم، وعدم زرّ أزرة كمّي قميصي ، ورغم طولي الذي يتجاوز ١٨٠سم  إلا أنني كنت ألبس حذاء له أطول كعب عالٍ في الجامعة.. وكنت محترفًا في التدخين، ومحترفًا في لعبتي التركس والطرنيب ، ومحترفًا في الأنشطة الطلابية، وحضور السينما  ذات العرض المستمر، والمشي في الثلج مهما كانت درجة برودته، وقراءة الروايات الفلسطينية والروسية، والحوار في كل شيء...  ولو على سبيل المشاكسة...وناشط سياسي ... ومع ذلك كنت الأول على زملائي وزميلاتي في الجامعة... ولم أكن عبقريًا على أية حال !!
كرهت شعري الذي مكّن هذا الكلب عوفاديا من افتراسي ... لقد استولى على طولي بسبب شعري الطويل... جرّني منه  معكوف الظهر لقصر قامته...
جرني إلى الدش ... أطلق شعري فوقفنا معًا وقفة واحد صفر...لكن الصفر هو الأهم؛ لأنه سيد هذه الغرفة الداكنة تحت القبو أو فوقه سيان!!


 (3)
الدشُّ
فتح الكلب عوفاديا دشَّ الماء، ثم أغلقه، ونظر إليَّ نظرة حقد أعمى، لم يستطع دفن بعضه...فالحقد والعنصرية لدى هؤلاء فطرة وطبع،ولا بدّ أن يغلب طبعهم اللئيم الحاقد أيَّ تطبع في الإنسانية والحضارة. يقتلون القتيل ويمشون في جنازته... ودائمًا هم الضحايا والمنبوذون، حتى يبتزوا أموال الضرائب الأمريكية والأوروبية... العالم كله يعرف درجة الحقارة المتأصلة في هذا الخليط البشري الاستعماري الاستيطاني، الذي يدعي  الإيمان بالتوراة، وبرسالة موسى عليه السلام!! هؤلاء  جاؤوا من قاع العالم  السفلي... تآمر  العالم كله؛ ليتخلص منهم ، ويبتلي بهم فلسطين وشعبها...!!
- استحمْ. 
- لا أريد .. 
- استحم كأنك في بيتكم.
- دخلت إلى مربع الدش، ووقفت تحته بملابسي. 
- هيك إنت بتستحم في بيتكم؟!
- أنا مش في بيتنا  حتى أستحم بطريقتي..أنت تجبرني على ذلك. 
- تعال هون ، واخلع ملابسك كلها . 
 خلعت القميص  والبنطلون، ودخلت إلى الدش ... حرك إصبعه المنتن كي أخرج؛ مشيرًا إلى أن أخلع الملابس الداخلية، فخلعت الشلحة فقط... وعدت إلى الدش!!
- اخلع سروالك يا حمار.
- لن أخلع السروال.
- اخلع السروال أو أجيب العصا، أهري جلدك.
- جيب المسدس.. لن أخلع..
 كالكلب المسعور،حمل العصا عن الأرض، وبدأ يضرب بها يده اليسرى كالعادة...وازداد احمرار عينيه..ووجهه قتامة... كأنه يلهث... عادت  إليه ملامحه الحقيقية..كلب مسعور...
عندما كنت صبيًا في الرابعة عشرة من عمري، وربما أقل من ذلك، كنت  محبًا لتربية الكلاب في منزلنا...كلاب أليفة، تعيش خارج البيت، وتحرسه ... كان آخر عهدي  بهذه الكلاب أنني ربيت اثنين: حمور وبروق... حمور كلب مشبع بالحمرة ..والآخر مشبع بالمسمرة ..هما شقيقان.. صارا كأنهما ذئبان حجمًا  وقطتان ألفةً.. كنت أرى فيهما الوجود  كله عندما يرافقاني في رحلة إلى "المسفرة" خارج البلدة، وقد يتنمران لملاحقة غزال..فأمنعهما؛ لأن الصيد ممنوع... ثم ماتا في مجزرة الكلاب المشهورة... تلك المجزرة التي نفذها جيش الاحتلال الصهيوني في منتصف إحدى الليالي الشتائيةالداكنة... فقد اجتاحوا القرية ...وبدؤوا يقتلون كل كلب  غير مقيد  بحبل، فقتلوا أكثر من خمسين كلبًا في مجزرة الكلاب التي يؤرخ بها قبل وبعد.. مدعين أن هذه الكلاب تعوقهم، عند تعقبهم للمخربين أي الفدائيين...
مات الكلبان...ودفع أخي مبلغًا من المال لعوّاد؛ حتى ينقلهما مع كلاب أخرى إلى مقبرة الحيوانات النافقة في " وادي القرية"؛  حيث تُلتَهم جثثها... أو تذيبها الشمس... في الحقيقة لا يوجد أسوأ من رائحة كلاب نافق..رائحة كريهة جدًا تشمها عن بعد ألف متر...رائحة نفاذة ..ربما أسوأ منها هذه الرائحة التي تنبعث من  الكلب المسعور عوفاديا !!
كرهتها تلك الكلاب المسعورة ... كرهت كلاب " دار عبيد"؛ لأنها  كلاب غنم شبه مسعورة، وقد ربِّيت أن تكون مسعورة ؛ لحماية الأغنام من اللصوص والذئاب.. لم تعضّني يومًا... لكنها عضت كثيرين غيري...
لا أعرف من أين تعلمت تلك الحكمة المهمة في مواجهة الكلاب: لا تهرب من الكلب؛ لأنه سيعضك إن هربت.. واجهه بقوة  هو الذي سيهرب... كنت أقف شرساً وبيديّ أكبر الحجارة عندما أرى كلبًا هاجمًا علي أو حتى كلبين.. وأهمّ ربهما بصوت مرتفع... سيتراجع مهزومًا أو يتراجعان مهزومين ، سيكتفي أو يكتفيان بالنباح... عضة الكلب ستكلفك كثيرًا؛ لا بدّ أن تأخذ إحدى وعشرين إبرة في قفاك في واحد وعشرين يومًا.. مضاد للسعار ... حتى لو كان الكلب غير مسعور، فلا بدّ من المضاد، وتطهير الجرح يوميًا... هذا عدا عن العار  الذي سيلحقك إن كننت ذكرًا ... لأن الكلاب لا تعض إلا النساء!!
- ما بدك تخلع السروال؟!
بكل ما أوتي من قوة ضرب مؤخرتي ضربة حركتني مترًا أو أكثر ...ولكني حافظت على توازني.. 
- ما بدك تخلع السروال؟!
بكل ما أوتي من قوة  ضرب بطني ضربة جعلتني أبرك على ركبتيّ..بعد  أن فقدت توازني..
- ما بدك تخلع السروال؟!
بكل ما أوتي من حقد أسود ضرب كتفي الأيمن، وثنّى على كتفي الأيسر، فشلّ ذراعيَّ..
- ما بدك تخلع السروال..اخلع السروال... أو أضرب على رأسك الآن..!!
وقفت تحت الدشّ عاريًا من كل شيء..  مكان الضربة التي على بطني  انقلب إلى اللون الأحمر الغامق.. يكاد الدم يتفجر منه..  ومازالت آلام قفاي وظهري تنبض بشدة... والعصا ما زالت في يده...كلب مسعور!! حتى الكلاب المسعورة انتصرتُ عليها يوم أن كنت فتيًا... كنت أتحرش بها لأضربها بالحجارة...بعد ذلك كأنها أدركت ألا حيلة لها عليّ... أنا علاء أمين صياد الكلاب المسعورة... وأيضًا ألاطف أيِّ جروٍ  يظهر المودة نحوي ، حتى لو كان كلبًا مخادعًا.. لكنني حذر..والكلب يعرف من يحذره!!
-استحم كأنك في بيتكم... استخدم الليفة والصابون. وافتح الماء  المناسب لك .. هذا الماء الساخن.. وهذا البارد.. أكيد بدك الماء الوسط الفاتر...كما تشاء!!
فتحت الدش ، وازنت بين الساخن والبارد، أمسكت الصابون والليفة .. غسلتهما جيدًا.. ثم دخلت تحت الماء الفاتر..فجأة تحول الماء إلى درجة الغليان، فخرجت من تحت الدش كمن لسعته أفعى، فصرخ كي أعود، فعدت..متكئًا على نظرية عنترة بن شداد... وليس لدي حجارة كي أواجه هذا الكلب المسعور...
مرة يكون الماء عاديًا وأخرى حارًا جدًا، وثالثة باردًا جدًا.. هكذا كررت هذه  المتوالية التعذيبية عدة مرات ربما مدة ربع ساعة، بحيث لم أعد أشعر بجسدي كله، وبدا رأسي الذي يتعرض للماء مباشرة.. كأنه يحوي دماغًا تغلي؛ فتناثرت منه أفكاري عن الظلم، والقهر، والاستبداد، والعنصرية، والنازية، والتوحش، والإجرام، والاستعمار،والكلاب المسعورة، وهذا المستعمر الصهيوني المجرم المدعي للتمدن والتحضر بين مجتمعات غجرية متخلفة كما يصورونها للآخرين...ويسخرون من العربي!!
تمالكت أعصابي .. مشدودًا إلى إيماني بانتصاري على عوفاديا الكلب المسعور.. حتى العريُّ أصبح مصدر قوة في التحفز نحو مواجهة  هذا المخلوق القرديّ... ألم يكن أبي آدم وأمي حواء - عليهما السلام - عاريين في الجنة؟! ألم يخلقنا الله عراة؟! وسنذهب إليه أيضًا عراة في يوم القيامة؟!
على هذا المخلوق الحاقد أن يشعر بالخزي والعار؛ لأنه يسرق وطني وابتسامتي ..هو اللص وأنا صاحب هذا البيت المغتصب..حتى هذه الغرفة ورثها عن أجداده الغزاة  كالإنجليز والصليبيين والرومان وغيرهم.
كان يدخن.. وما زالت العصا بيده ..بدا في الجدار الذي يقف عنده ذلك المقبض الحديدي الذي يغير نوعية الماء المستخدم في التعذيب...حار جدًا ..بارد جدًا..ليهنأ بعنصريته الخبيثة..ليهنأ بعاقبته الوخيمة..ليهنأ بلعنة الله التي تجلله حيًا وميتًا!!
- نعيمًا.
- الله لا ينعم عليك!
- وعليك..كيف كان الحمام؟
تناولت ملابسي عن الأرض..
- اتركها.. اتركها مكانها.. وتعال اقعد على الكرسي  بدون ملابس..خليك على حالك. بعدين إيش بدك في الملابس...ما في حدا هون تخجل منه...وما ينطبق هون مثلكم:" اللي اختشوا ماتوا"...هون تعترف على تنظيمك الإرهابي، وتحكي قصتك،وتقول مين هم جماعتك في التنظيم...وبعدين البس ملابسك...وممكن تروح  إلى بيتكم لو حبيت...مفهوم؟!
لا يوجد أوفى من الكلب...لم يروَ يومًا  في القرية أن كلبًا أليفًا أساء إلى أهله، أو عض طفلًا.. أو دخل إلى البيت المحرم عليه دخوله...الكلاب في بلدتنا لا تدخل إلى بيوت أصحابها..مهما كانت حاجتها إلى ذلك...أكثر مكان تقترب منه هو عتبة البيت أو بابه؛ انتظارًا لطعامها...كلاب أليفة مؤدبة..ولا تؤذي القطط المنزلية...ربما تؤذي قطط الشوارع، فتكتفي بطردها من ساحة المنزل، باعتبارها غريبة.. وإذا أَلِف الكلب أحد الأقارب أو المعارف، فلا ينبح عليه عندما  يأتي أو يخرج.. ينبح على الغريب... لهذا لدى الكلب ذاكرة عجيبة  في معرفة الناس وحاجاتهم...يعرف اللصوص من حركة أو حركتين مريبتين... لديه ذكاء عجيب...لا بدّ أنه سيفقده عندما يغدو مسعورًا .. وعلاج الكلب المسعور أن يقتل...والدليل على أنه مسعور إذا تكرر عضّه للناس ...
كم عضضت من الأسرى الفلسطينيين يا عوفاديا الكلب المسعور؟!!

(4)
الكرسي
 جلست على الكرسي عاريًا، وجلس عوفادا في يده العصا التي يحتمي بها من أية محاولة مني للهجوم عليه، في لحظة ما أفقد فيها أعصابي.. وهو يريدني أن أفقد أعصابي من خلال تركيزه على تعذيبي نفسيًا..ضممت فخذيّ.. حانيًا ظهري بعض الشيء إلى الأمام.. قال بسخرية:
- مرتاح حضرتك في جلستك؟
لم أرد عليه. طلب مني أن أقوم.. حرك الكرسي ، فصار مسندها على يمينه ، فطلب مني  أن أجلس مقابلًا له. عندما جلست شعرت بأنني أجلس على حافتي الكرسي اللتين تحزّان في القفا.. ثم طلب مني أن أرجع ظهري إلى الخلف أكثر من زاوية قائمة..كأنّ قياس درجة الزاوية  لعمودي الفقري120درجة ...حينها بدأ ظهري يصدر آلامًا كأنها سكاكين... حتى نظرية عنترة بن شداد تفشل في مواجهة هذه الطريقة الإجرامية من التعذيب.. الشياطين نفسها ما كان بإمكانها أن تكتشف هذه النوعية  من مواقع الألم في جسم الإنسان.. الجسد  كله يغيب أو يهمّش .. ويغدو التفكير كله في البحث عن طريقة ما لتخفيف هذه الآلام  المنبعثة من أسفل العمود الفقري، التي تكاد تدخلك في شلل رباعي بين لحظة وأخرى.. قرب العصا من ركبتيّ محاولًا فتحهما..فازدادت قوة ضمهما لدي.. فضرب الفخذين ضربة قوية..فانفتحتا عنوة..
- متزوج ... أكيد مرتك أو صاحبتك رايحة تبحث عن واحد غيرك.. مش معقول تنتظرك خمس أو عشر سنين.. خليها لأصدقائك الإرهابيين.. وأنا بعد ما أخرج من هون  أذهب مع صديقتي إلى الملهى مبسوطين، لا هم دنيا ولا عذاب آخرة كما تقولون.. وخليك  للعذاب في الغرفة الوسخة... أنا أخف واحد في التعذيب من بين زملائي.. في ناس منهم رايحين يحطوا العصا هذه في(....).. أكيد حينها ستعترف.. حتى اعترافك رحمة لك.. الأحسن لنا ألا تعترف ..قانون "تامير" يتيح لنا أن نحكم عليك  وعلى غيرك بمجرد وجود اعتراف واحد فقط.. سمعت عن قانون تامير؟ أكيد واحد مثلك  في منظمات إرهابية عارف إيش الشاباك بيعمل في الإرهابيين المخربين.  الأحسن إلك  أن تعترف.. الحكم أخف .. بدك تحكي قصتك ؟ بدك تحكي قصتك؟ اتكلم..
- ما عندي  قصة...
- حمار كبير.. أخط تفو.. ما تمسح وجهك يا حمار، قيم إيدك.. أخط تفو.. أخط تفو.. أخط تفو.. أخط تفو.. أخط تفو.. أخط تفو..
واصل البصاق  على وجهي .. أغمضت عيني ، وأغلقت فمي منذ بدء البصق.. كانت رائحة  لعابه منتنة أكثر من منقوع زبل الغنم في الشتاء..حاول أن أفتح عيني.. لم أستجب... يبدو أنه تناول مادة دوائية؛ كي تثري لعابه القذر .. لقد غرق وجهي كله  في مستنقع  لعابه الأسن المشبع بالخمرة والتبغ والقذارة.. سحب رجل الكرسي نحوه فانهرت على الأرض.. غير قادر على فتح عيني أو فمي.. بسبب ما تراكم عليهما من لعاب..انفتح الباب  وبدأ الرجل الداخل من غير أن أراه يتحدث بالعبرية التي لا أفهمها.. جاءتني ضربتا قدم قويتين على رأسي..هما من عوفاديا فيما أتصور .. لأنه أعقبهما بكلمة " مبزير" بالعبري. .. لا أستطيع أن أفتح عينيّ ولا فمي.. لكني أشم كلّ شيء حولي.. حتى الكلام أشمّه.
- امسح وجهك.
أمسكت قطعة القماش التي ألقيت على وجهي.. بدأت أمسحه مستخدمًا كل المساحات الناشفة من القماش.. فتحت عيني بصعوبة .. كانت هذه "فانيلتي" التي أمسح بها وجهي.. هذا هو الذي  فتح الباب إذن .. لم أرَ  عوفاديا .. أحضر ملابسي..رماها علي .. لبستها..!!
 رجل نحيف  أربعيني، متوسط الطول..وجهه أشقر أبرص بشدة.. لحية كثة شقراء منعوفة.. عينان صغيرتان مطفيتان.. يحاول أن يبدي مظهرًا إنسانيًا كاذبًا.. لكنه خبيث كما تبدو عيناه، يحمل على خصره مسدسًا واضح الملامح.. ويعلق قيودًا، ومفاتيح... 
حمدت الله أنّ الذي أمامك رجل... فقد روى كثير من الأسرى أنهم كانوا يرسلون  إليهم فتاة  شبه عارية؛ لتتحرش بالأسير جنسيّاً...وهم يصورون؛ ليبتزوه بالصور التي ستفبرك بطرقهم الشيطانية؛ خاصة أنّ هذه ( القحبة) تكون مدربة للوقوف في أوضاع جنسية توهم بأن الأسير يتفاعل معها...لا يوجد أسوأ من هؤلاء  المجرمين في  اتخاذ الجنس  وسيلة لتوريط  بعض ضعاف النفوس  في العمالة والخيانة..حتى أن هؤلاء المتساقطين عندما يتورطون يؤذون أقرب المقربين لهم!!
النساء والمال والخمرة والحشيش... طرق يستخدمونها كثيراً في توريط العملاء والخونة... يحاولون أن يعرفوا من أين تؤكل الكتف، فيدرسون حالة الشخص...ما نقطة ضعفه؟ من أين يدخلون إليه ما دام من أخس الناس...ولا يقع في حبالهم إلا أخسّ الناس وأنذلهم ومن لا أخلاق لهم- على أية حال!!
- أنا أحضرت لك الأكل والماء..لكن للأسف عوفاديا أخذه .. زعلان منك كثير .. كان لازم تتعاون معه يا شيخ.. زعلان كثير كثير منك..هذا أحسن واحد في المركز .. ما يعصب.. غريبة إنه عصب معك... لكنك أكيد زعلته .. كبّ الأكل والميه بره الغرفة.. أنا متأسف  ما راح  تقدر توكل أو تشرب اليوم!.. ممكن بعدين..ممكن أقدر أهرب إلك شوية ميّه.
- الله لا يكثر خيرك ( قلت في نفسي)...على من يريد أن يضحك هذا الغبي...هل يراني أمامه طفلاً   تلعب رجلاه في التراب؟!
انتهيت من لبس ملابسي...لبست حذائي...اعتدلت.. ربّط الأبرص يديّ خلف ظهري، ثم أقعى على الأرض يكبل قدميّ.. ثمّ أخرج كيسًا أخضر داكنًا منتنًا، ألبسه رأسي.. في الكيس ثقبان صغيران عند الأنف؛ ليدخل منهما الهواء ؛ كي أتنفس- فيما يبدو.
جرني من يدي اليسرى .. كنت أمشي معه منهك القوى.. أكاد أتعثر بقيد قدميّ.. ومازال وجهي مكبلًا باللعاب المنقوع بالتبغ والخمرة والروائح الكريهة..ليت هذا اللعاب كان قبل الدّش... يكاد هذا الكيس أن يخنقني برائحته الكريهة.. كم رأس أسير فلسطيني وضعوا فيه... ربما يزيد عمره على ثلاثين عامًا.. وبكل تأكيد لم يغسلوه يومًا قط..  
في الطريق... هجم أحدهم عليّ فأمسك رأسي بقوة : ضغطه إلى الأمام، وإلى الخلف، وإلى اليسار، وإلى اليمين..فعل ذلك بقوة عدة مرات في الاجاهات كلها.. لم استطع أن أسيطر على رقبتي ورأسي... كنت منهكاً فازداد عذابي.. وما زال الأبرص يقبض  على ذراعي  اليسرى بقوة...
حالة التعذيب هذه تفقدك الشعور بوجودك ... تشعر بالاختناق ...تكاد تسقط على الأرض... تسمع الحوار بين الرجلين على رأسك... يبدو  الكلب المسعور عوفاديا قد عاد إلى ممارسة  تعذيب بأسلوب نفسي جديد.. أسلوب تحريك الرأس في اتجاهات عديدة...
إذا كان أسفل العمود الفقري  فوق العصعص قد تأذى كثيراً من عذاب الجلوس على الكرسي، فإن تحريك رأسي على هذا النحو من الحركات الجنونية في كل الاتجاهات كفيل بأن يفقد العالم كله توازنه... هذه حالة تعذيب جنونية فاجعة ... هذه محاولة إجرامية للفتك بكيان الإنسان كله، من خلال  هذه الزلازل  في بؤرة تكوينه الكامنة في الرأس ..
أين تعلم هؤلاء المجرمون  هذه الطرق الإجرامية من التعذيب... ربما نسي الكلب المسعور عوفاديا أن يمارس ساديته على رأسي في تلك الغرفة الصفراء المنتنة اللعينة...فعاد ليمارسها الآن في هذه الطريق العمياء.. بل ربما كان هذا هو المكان المناسب  لهذه الممارسة.. والمطلوب أن تفقد توازنك النفسي... تكاد تشعر بأن الأبرص غدا  يسندك من ذراعك؛ حتى لا تسقط على الأرض...
 حسدت الذين لهم رقاب قصيرة..وكرهت الغزل العربي الذي تغزل  بالجيد  والجيداء.. بالرقبة الطويلة الرقيقة...في هذا الموقف بالذات أنت لا تحتاج إلى رقبتك؛ لأنها تعذب رأسك بأيديهم..فيختل توازنك الجسدي!!

(5)
متر في متر
زنزانة متر في متر  في الأكثر.. باب حديدي. لا نافذة ولا هواء.. رائحة كريهة.. كأنها حمّام ضيق ... رائحة البول منتنة.. وربما تغوّط فيها بعضهم معذورًا.. الكرسي الخشبي نفسه.. رأسي مغطى، ويداي مكبلتان من المعصمين، وفي قدميّ سلاسل الحديد.. أجلس على الكرسي.. وجهي في مواجهة الباب.. ينبغي علي أن أكون حذرًا؛ لأني لست متيقنًا إن كان الباب  سيفتح إلى الداخل أو إلى الخارج؟! لو فتح إلى الداخل، وهذه حركة مقصودة منهم.. فلا بدّ أنه سيرتطم في وجهي.. إذن هم يقصدون  من ذلك  لو أملت رأسي إلى الأمام  إلى الباب المغلق في هذه الزنزانة.. لأرتطم بالباب والجدار عندما يفتحه أحدهم بسرعة.. الرائحة كريهة .. لكني بدأت آلفها..مجبر أخوك  لا بطل!!
جرّني الأبرص الملتحي من تلك الغرفة الصفراء المنتنة..وهجم أحدهم على رأسي في أثناء الطريق..وها أنا هنا في هذه الزنزانة الضيقة الخانقة ذات الرائحة الكريهة.. لا تسمع شيئًا خارجها.. هل غبت عن الوعي قبل أن تدخل إلى هنا...لا أظن...
أحدهم فتح الباب..ثمّ أغلقه .. تأكدت أنه يفتح إلى الخارج..  ثمّ فتحه:
- اسمك؟
- علاء.
- أبوك؟
- أمين.
أغلق الباب بالمفتاح.. رائحة البول في الغرفة ولّدت لدي الحاجة إلى التبول.. كيف سأتبول؟!
أدركت من أين جاء البول إلى هذا المكان.. هذا بول الأسرى الذين حشروهم هنا.. إذن سأبول على ملابسي مثلهم. وجهي مشبع بلعاب ذلك الكلب المسعور..ورأسي يدور ويدور...والعمود الفقري ما زال ينبض بالألم...وضربات العصا... والآن سأغسل جسدي السفلي ببولي.. ومتى سينشف.. من المؤكد أنه سيبقى زمنًا طويلًا ما دمت في هذه  الزنزانة المشبعة بالرطوبة... مهما حاولت تأخيرها لا بدّ أنني سأبول في ملابسي...وقد فعلتها مراراً  في فراشي عندما كنت صغيراً واعيًا في السادسةأو أكثر من عمري...فالنائم مثل الميت، وربما أكثر...ثم كانت أمي تضع الفراش"الجودل" على السور مقابلاً لحرارة الشمس...ينشف البول..ولا رائحة عمومًا ... ما الرائحة الناتجة من وراء طفل صغير؟!
إلى أي درجة كانت قساوة ذلك الأستاذ عندما منعني في الصف الأول الابتدائي في الحصة الأولى من الذهاب إلى الحمام...يبدو أنني لم أذهب إلى الحمام في البيت...نسيت!! رفض.. وقال بغضب:هذه الحصة الأولى ما فيها ذهاب إلى الحمام...تماسكت إلى أن بدأت  الحصة الثانية...سمح لي الأستاذ..خرجت.. قبل أن أدخل إلى الحمام تدفق البول.. فامتلأت ملابسي...لن أعود إلى الصف...مكثت أتقلب تحت حرارة الشمس في مكانٍ منزوٍ عن المدرسة... نشف البول.. وعدت... كانت نهاية الحصة الرابعة...ضربني الأستاذ بالعصا.. ولم تخف عليه حالتي التي كظمها...ولم يعرف زملائي الخبثاء شيئًا، ومن ثمّ فقد سلمت من لقب :" أبو شرته" الذي يلقب به كل من يبول في ثيابه!!
جاء صوت حركة في الخارج.. أدخل المفتاح في الباب.. فتحه:
- اسمك؟
- علاء أمين.
- أكلت ؟
- لا.. بدي حمام !
- بول  أو وسخ؟
- بول.
- بعدين.
ليتني قلت له: وسخ. لكني لم آكل أي شيء...كيف آكل وأنا أريد أن أبول .. ومن الصعب أن يكون في أمعائي أي فضلات ، يمكنها أن تخرج الآن.. إن لم أجد حلاً للتبول في غير ملابسي..فلا بدّ أن أفعلها كالآخرين هنا .. في الملابس... في الملابس مثلهم؟!
لم يعد هناك أي مجال للتخلص من البول الذي بدأ انحباسه يمغص أحشائي..ولم يأت أحد منهم... ربما مرت ساعة أو أكثر دون أن يأتي ذلك الخبيث الذي طلبت منه أن أذهب  إلى الحمام.. وقفت .. سرسب البول دافئًا إلى الأرض... لو تبولت في ملابسي وأنا جالس على الكرسي ؛ لكانت الطامة كبرى.. غيّب احتباس البول أيَّ تفكير لدي، باستثناء البحث عن طريقة لإخراجه بأقل الخسائر .. جلست على الكرسي  بعد أن انتصرت على البول. فأفرغت معظمه على الأرض لا في ملابسي...يبدو أنَّ كل الذين قبلي فعلوا مثلي... التبول بأقل الخسائر.. بدأ إحساسي بالكيس الذي يغمر رأسي  يسحبني إلى عالم أكثر اختناقًا..
 يبدو أنني نمت بعض الوقت.. ربما دقيقة أو نصف ساعة أو أقل أو أكثر.. محاولة فتح الباب هي التي أفزعت غفوتي .. الذي فتح الباب تكلم عدة عبارات عبريّة.. كأنه يتحدث لآخرين معه.. كأنه رأى بقايا البول على الأرض ، ورأى ملابسي أيضًا.. أغلق الباب..فعدت  إلى التفكير في البحث عن طرق تسهم في راحتي في هذا المكان الضيق المنتن.. هنا يتجلى التعذيب النفسي في درجاته العليا.. ماذا بإمكانك أن تفعل يا علاء أمين؛ لتتجنب مزيدًا من الاختناق ؟! حاولت أن أرفع الكيس مسافة بسيطة؛ لأخرج منه أنفي بعض  الوقت.. سحلت رأسي على الجدار مرات عديدة.. لكني فشلت..
الحاجة أم الاختراع.. عندما أصبحت في الجامعة غدوت أعاني من عدم وجود قمصان جاهزة، تغطي ذراعي كله ..كل القمصان أكمامها قصيرة... لذلك  حللت هذه المشكلة بالتفصيل..تفصيل القمصان.. أفصل القميص عند الخياط بالطول المناسب، وإن كان السعر مضاعفًا.
وقفت.. أنزلت يديّ المربوطتين خلف ظهري إلى أسفل الوركين.. جلست على الكرسي حانيًا ظهري إلى ركبتي..وبدأت أدفعهما بهدوء إلى أسفل قدمي اليمنى التي رفعتها قليلاً عن الأرض ، ثم دفعتها أسفل قدمي الأخرى..فغدت يداي المكبلتان أمامي.. لا أراهما، رفعتهما إلى الكيس، رفعت طرفه الأمامي نحو جبهتي ، تنفست بعمق، لم أرَ شيئًا حولي.. فقد كانت العتمة ضاربة أنفاسها في المكان.. لا ترى شيئًا هنا .. حتى يديك لا تراهما..ما وصلت إليه يعد انتصارًا.. فحافظ عليه .. بإمكانك أن تتخلص من بولك بهذه الطريقة.. أخذوا الحزام .. فككت الزر .. أنزلت الثياب.. تخلصت من بقايا البول المتجدد.. أعدت ثيابك إلى ما كانت عليه..أهم ما يخيفك أن يفتح الباب أحدهم؛ فيكتشف هذا الانتصار العظيم الذي حققته على قيودهم اللعينة.
أعدت الكيس على وجهي ، جلست على الكرسي .. انحنيت، دفعت ذراعيّ من أسفل القدمين إلى ظهري.. تنفست الصعداء بدون هواء.. رحمة الله هي التي أعادت أموري إلى ما كانت عليها قبل ان يفتح أحدهم الباب.. فرفع الكيس إلى أنفي، ثم قرب وعاء من فمي، أدركت أنه الماء.. شربت ثلثه، وانسكب الثلثان على ملابسي.. أغلق الباب...شعرت بنشوة الانتصار والماء الذي انسكب على ملابسي يغسل بعض بقايا اللعاب والبول!! بكل تأكيد لم يكن الماء نظيفًا لكنه ماء!!
جربت إخراج ذراعيّ وإعادتهما إلى خلف ظهري عدة مرات.. غدت العملية سهلة.. بإمكاني أن أعيدهما إلى مكانهما قبل أن يفتح الباب، حيث بدأت أشعر بقدوم أي شخص قبل ممارسته لفتح الباب.. 
كم مكثت في هذا المتر المربع اللعين؟ لا أعرف! مرات عديدة حُشرت هنا..  وأزمنة عديدة قضيتها هنا.. لكنني عندما كنت أتبول لم أعد أفعلها في ثيابي.. مرة واحدة فعلتها في البداية.. لم أكررها؛ لأني انتصرت على سجاني في هذا المكان الضيق المظلم المنتن بالروائح الكريهة!!